أصبح من المعروف أن البيت الأبيض يتعقب قصة عمليات المراقبة التي تقوم بها وكالة الأمن القومى. في البداية، عندما تفجرت إفشاءات إدوارد سنودن، طلب مسئولو البيت الأبيض تأليف قصة عنه. إن سنودن كان خائناً، وأصبحت القضية تقتصر على كيفية تقديمه بسرعة للعدالة. وعندما اندلعت الموجة الأولى من الإفشاءات حول قيام الولايات المتحدة بعمليات حصاد بالجملة للبيانات وأرقام الهواتف، تمسك المسؤولون بهذا الموقف. ولا تزال الإدارة تركز على تصوير نفسها كضحية للخيانة. ومرة أخرى، لم يتطرق المتحدث باسم البيت الأبيض لأخلاقيات ما تقوم به حكومة الولايات المتحدة، وبدلا من ذلك، إما أنه كان يتحول إلى المنطق وراء القيام بمثل هذه العمليات واسعة النطاق من الرقابة والتجسس، أو يقدم المبرر بأن قيام جهاز المخابرات بتشغيل أكثر من نصف مليون شخص ينطوي على مخاطر أمنية وحتماً سوف يكون هناك موظفون ذوو خلفية مريبة مثل سنودن. وعندما طلب سنودن حق اللجوء السياسي، صنعت الولايات المتحدة قصة حول تعاون الحكومات الأخرى مع الشاب المخادع الهارب. وتصاعدت التوترات مع روسيا عندما منحته مأوى مؤقتاً. أما دول أميركا اللاتينية التي عرضت أو فكرت أن تعرض على سنودن حق اللجوء السياسي فأصبحت في إطار الدول المنبوذة! وبينما انتشرت القصة، واكتشفت دول مثل البرازيل والمكسيك أنهما أهداف للتجسس، كان رد البيت الأبيض أن «الجميع يفعل ذلك»! ومرة أخرى، لم تدر أية مناقشة عن أسباب التجسس على الأصدقاء، أو إذا صحت التأكيدات حول التجسس على أهداف تجارية مثل شركة «بيتروبراس» البرتغالية للبترول، فما المنطق في مثل هذا النوع من التجسس الاقتصادي؟ وبعد المناقشات المبدئية قيل إن هذا البرنامج الضخم غير المسبوق يهدف إلى حمايتنا من الإرهابيين والأعداء. فهل كان هناك اتصال خفي لا نعرفه بين «بيتروبراس» وتنظيم «القاعدة»؟ ومؤخراً، كشف رد فعل البيت الأبيض معاييرنا المزدوجة عندما يتعلق الأمر بمراقبة أصدقائنا. فإذا انزعجت البرازيل أو المكسيك، فهذا أمر من السهل تجاهله. لكن عندما تعلق الأمر باستهداف ألمانيا، إحدى أقرب حلفائنا (مما أثار غضبها وغضب كل من فرنسا وإسبانيا المستهدفتين أيضاً)، فقد تعاملنا مع الموقف بشكل مختلف. وفي هذه الحالة، تم منح كل الضمانات العامة والخاصة لكبار المسئولين الألمان من قبل كل من مستشارة الأمن القومي سوزان رايس ثم من أوباما نفسه. وكانت الحجة التي اعتمدت مؤخراً أن الرئيس لم تكن لديه أدنى فكرة عما يحدث، وأن ذلك تم إيقافه. وطلب البيت الأبيض من الشعب الأميركي قبول الجهل كعذر له. ما هذا الخيار الجيد، إما أن الرئيس لا يعرف شيئاً عن برامج من المفترض أن يكون على دراية بها، أو أنه كان يعلم لكنه كذب بشأن الأمر؟! وقد حصلت صحيفة «نيويورك تايمز» على فكرة طرحتها وكالة الأمن القومي وتقضي بأن يدرس الرئيس إصلاحات من شأنها حظر التنصت على قادة الدول الحليفة. إن القضايا الأساسية المرتبطة بالمراقبة المفرطة التي كشفت عنها إفشاءات وكالة الأمن القومي ليست التجسس على الأصدقاء. إن الحصاد بالجملة للبريد الإلكتروني وسجلات الهاتف الخاصة بالأميركيين تشكل خروجاً خطيراً على المبادئ التي تحد من دخول الحكومة على المعلومات الخاصة، والتي كانت موجودة منذ قيام الجمهورية. وهناك أمر آخر خطير وهو الانتهاك المتتابع لخصوصية عشرات الملايين من المواطنين الأجانب. وكذلك الإشارة إلى أن تهديدات الإرهاب تبرر مثل هذه الانتهاكات الواسعة. ولنخطو بعيداً عن الشواغل الأخلاقية والاستراتيجية التي تثيرها هذه البرامج، فهناك أسئلة خطيرة حول الإدارة العملية لبرامج الاستخبارات. هل الفوائد المتأتية من هذه البرامج تستحق المخاطرة التي تنطوي عليها؟ ما الفائدة الملموسة من التنصت على شركة نفط برازيلية؟ ما الفائدة المنتظرة من التنصت على المستشارة الألمانية؟ وما الذي يستحق تداعيات الفضيحة الناتجة عن هذه الممارسات؟ ووفقاً لتقديرات إحدى المجموعات الصناعية، فإن الصفقات التكنولوجية الخارجية المتوقع أن تجمدها الشركات الأميركية بعد أن أصبح ينظر إليها على أنها مشتبه بها أو عرضة لتأثير وكالة الأمن القومي، تقدر بنحو 35 مليار دولار. والأسوأ من ذلك، أن كل هذه القصة سوف تستغل من قبل الحكومات الأجنبية للتراجع عن موجة العولمة والوصول المتزايد للمعلومات الذي أتت به ثورة المعلومات. كما سيكون مبرراً لتقديم برامج مكافحة الرقابة والأنظمة المقيدة لحوكمة الإنترنت والرقابة وتعميق الصراعات من خلال الإنترنت. وكل هذه تعتبر انتكاسات للمصالح الأميركية في الخارج، والتي هي أكثر ضرراً من أي شيء يمكن للإرهابيين القيام به. وبالنسبة للبيت الأبيض، فقد حان الوقت للكف عن ملاحقة هذه القصة والقول «إننا كنا مخطئين. لقد تجاوزنا الحدود. إننا نحتفظ بحقنا في الدفاع عن أنفسنا باستخدام جميع الوسائل المعقولة التي بحوزتنا، لكننا لا نستطيع تنفيذ ذلك بوسائل تهتك القيم والتحالفات التي تعتبر الركائز الحيوية لقوتنا». لقد حان الوقت للترحيب بدعوات السيناتور ديان فينيشتاين لإجراء مراجعة شاملة لبرامج الاستخبارات. لقد آن الأوان لتبني المبادرات الصادرة من الكونجرس للحد من تخزين البيانات وانتهاك الخصوصية. وفوق كل ذلك، يتعين على الرئيس وكبار مساعديه تحديد أهداف الأمن القومي، ومن ثم تحديد الدور الذي ينبغي لمجتمع الاستخبارات القيام به لتعزيز هذه الأهداف. ديفيد روثكوبف الرئيس التنفيذي ورئيس التحرير المتجول لمجلة «فورين بوليسي» ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»